Newsletter

الجمعة، 23 يونيو 2017

اللانظام هو الحل

اللانظام هو الحل

يروى لنا التاريخ حكاية لمجتمع كان يعيش فى حالة من السيولة الفكرية والتحرر من كل قيد وظابط، فكان نظامهم الأصلح بعد “تجربة” العديد من الأنظمة التى مروا بها هو “اللانظام” فالفرد هو “مقياس كل شىء”؛ بحيث لا يمكن لفرد أو مجموعة أو فكر ما أن يملي على من يعيشون فى هذا المجتمع ما يفعلونه، فأنت حر فيما تقول وتسمع وتفعل وترى، وما تراه أنت جميلا ومفيدا ورائعا قد يراه غيرك قبيحا وضارًّا، وقد يرى آخر أن ما يراه الاثنان غير موجود من الأساس

كأن يرى شخص بأن السعادة تكمن فى فعل كل ما يشعره بإشباع كل رغباته وشهواته مهما كانت، وجمع أكبر قدر من المال؛ حيث إنه السبيل الوحيد للتحرر من استعباد الآخرين، وسرعان ما ستنتهي حياة الإنسان، لذا فعليه أن يغتنم كل فرصة ويستخدم كل وسيلة لتحقيق هذه الغاية مهما كانت، ويرى آخر أن السعادة تكمن في الابتعاد عن كل ما هو دنيوي والسمو على الملذات والمتع وكل ما هو مرتبط بالمادة، فهي مصدر كل الصراعات والحروب والشرور التى نراها فى العالم من قتل للأبرياء واضطهاد للضعفاء، فهذا كله بسبب السعي وراء الشهوات والملذات وإرضاء الأطماع المادية، ويرى ثالث أنه لا توجد سعادة فى هذا العالم وأنه لا جدوى من المحاولة فى الوصول إليها، فنحن خلقنا لنعاني فى هذه الدنيا ليس إلا، أو خلقنا الإله ليشعر ببعض التسلية وهو يشاهد صراعاتنا كما نشاهد مبرايات كرة القدم أو المصارعة الحرة حتى لا يقتله الملل كما يرى “كامو”، كل هذه الآراء صحيحة عند بعض التيارات الفكرية التي تنادي بالنسبية فكل فرد من هؤلاء يعد “مقياسا” لما هو صحيح وكل ما قيل عن السعادة بالرغم من تناقضات وتصادم الآراء يعتبر صحيحًا.

هذا ما كان يراه “جورجياس” زعيم الحركة السفسطائية المتطرفة فى المجتمع الأثيني، الذي رأى أنه لا يوجد واقع من الأساس ليتمكن الناس من إدراكه، وإذا وجد فلا يمكن معرفته لأن الحواس والعقل قد يخدعون الإنسان (كرؤية السراب ماء، والملعقة المكسورة في الماء،…)، وحتى إذا تمكن الإنسان من معرفة هذا الواقع فلن يتمكن من وصفه، وإذا حدث ووَصَفه فلن يجد من يفهم هذا الوصف. ناهيك عن القيم؛ فلا يوجد قيمة لأي شىء فى ذاته ولكن الإنسان هو الذي يعطي القيمة لكل شىء وفق رؤيته وتجاربه وخبراته، فالواقع والقيمة أمر نسبي قابل للتغير من شخص لآخر كما كان يرى “بروتاجورس”. هل يمكن أن يتشكل مجتمع بهذا “اللانظام” كما يقول هذا التيار، كيف يمكن أن يصدر القاضي حكما على مجرم أو ظالم، إذا كان كونُه مجرمًا أمر “نسبي” ، فقد يكون ظالما من وجهة نظرك وعادلا في وجهة نظر أخرى وقد يأتي ثالث ليقول لا يوجد ما يسمى أصلا بالعدل والظلم المطلق!

أجابنا سقراط على هذا التساؤل، حيث شكل تيارا جديدا فى مواجهة التيار السائد والمسيطر فى عصره والذي لم يكن واضحا للطبقة العريضة من المجتمع خطورته وهذا ليس بسبب ضعف قدرة الناس على الفهم -حيث إن فطرة الإنسان والتفكير المنطقي السليم كافية لرؤية كم المغالطات والانحرافات في ذلك الفكر- ولكن السبب في عدم معارضتهم هذا التيار هي قدرة “بروتاجورس” وأتباعه على التلاعب بالألفاظ بأن جعلوا الحق باطلًا والباطل حقًّا، وبراعتهم في إخفاء حقيقة ما يرمون إليه.ولكن قام سقراط بتحليل كل هذه الأفكار وفندها وساعد الناس على معرفة حقيقة هذا الفكر عن طريق “فن توليد الفكرة” وهو أن يسأل الناس عما يتبنون من أفكار ومعتقدات ويواصل التساؤل حتى يجعلهم يَصِلُون للنتيجة بأنفسهم ويُظهر للمستمعين مكمن الخطأ والخداع فى الفكرة التى أقنعهم بها التيار السائد.

فلكي يتبنى المجتمع فكرة ما، يجب ألا يكون مصدر تبنيها هو مجرد “تجربة” مجتمع آخر لها، بل يتم تبنيها لكونها تتوافق مع معايير واضحة مصدرها المنطق الصحيح الذى يفرق بين الحق والباطل، فلا يمكن أن نقوم بتجارب عديدة لنعرف ما هو أفضل نظام اقتصادى للبلاد مثلا؛ فأثر التجربة سيتحمله المجتمع كله وقد تتسبب تجربة فكرة جديدة فى إفناء المجتمع بالكامل.

وإذا أردنا أن نعرف ما هى السعادة مثلا يجب أن نعرف أن الحصول عليها يكون بتلبية احتياجات الإنسان التى هي مادية وروحانية معا، فلا يفرط فى حب المادة بشدة ويقوم بالتفريط فى الأخلاق وتحصيل المعرفة أو ينبذ الحياة المادية تمامًا، فالعدالة تؤدى للسعادة.

وقيمة الشىء يمكن معرفتها عن طريق مقياس ثابت لها كما يفعل المهندس عند قياس الأطوال باستخدم مقياس ثابت كالمسطرة، أو الدكتور الذي يستخدم الترمومتر كمقياس ثابت لقياس الحرارة، لذا علينا بتثبيت المعايير والانطلاق من العدل والتجرد، بحيث لا نكوِّن أحكاما مسبقة بدون دليل منطقي أو نحكم على الشىء طبقا لأهوائنا بل طبقا لما هو حق وعدل. ولا تنكر هذه الرؤية وجود بعض الأمور الذوقية ذات الطبيعة نسبية في الاختيار كأن يحب شخص ما اللون الازرق وآخر يحب الأصفر! فهنا لا يوجد معيار يجعلنا نقوم بترجيح حب لون على الآخر أو تفضيل أكل “الكريب” مثلا عن “البيتزا”! ولكن حتى تشخيص ماهو مطلق وما هو نسبي يحتاج لمعيار لكي لا تختلط الأمور وتفسد الأفكار التي تبنى عليها القرارات والتصرفات الهامة.

ولكن حين يتعلق الأمر بالكذب والصدق مثلا أو السرقة والقتل أو العدل والظلم أو بكون هناك خالق أم لا أو أنه كامل وعادل أم ظالم يلهو بعباده، فهذا أمر آخر. فالكذب هو إخفاء الحقيقة ومجتمع بلا حقيقة هو مجتمع ضعيف هش يمكن كسره وتدميره أو استخدامه دون وعي لمصلحة مجتمعات أخرى، مجتمع لا يعرف الفرق بين الظلم والعدل أو يقر أنه أمر نسبي، يعنى أن نرى أبا يقوم باغتصاب أولاده وابن يقوم بعقوق والديه ويستهزأ بهم لكونهم أصبحوا عبئا عليه لكبر سنهم، أو أطفال لا نعرف لهم أبًا ولا أمًّا فيصبحون ظاهرة “أطفال الشوارع”، ومثقفين يروجون لأفكارٍ تحث على البعد عن الزواج والحياة الأسرية وحب التحرر والعزوبية، وأستاذة جامعة ترى أن “الرقص” هو المجال الأفضل لها لتشعر بالسعادة وترضى عن نفسها وأبحاث تقر الشذوذ الجنسي كطبيعة بشرية وكثير من الأمراض المجتمعية والظواهر الكارثية التي تنتشر وستستمر فى الانتشار، وهذا كله نتاج نسبية الحق وانعدام المعايير والتحرر من كل قيد، فيجب ألا نستهين كأفراد بأثر تبنينا لفكرة ما على كل ما يحدث فى مجتمعاتنا، فتمسكنا بالمبادىء الصحيحة النابعة من المعايير الصلبة يمكن أن يغير ما نتصور أنه لا يمكن تغييره.

اللانظام هو الحل

اللانظام هو الحل

يروى لنا التاريخ حكاية لمجتمع كان يعيش فى حالة من السيولة الفكرية والتحرر من كل قيد وظابط، فكان نظامهم الأصلح بعد “تجربة” العديد من الأنظمة التى مروا بها هو “اللانظام” فالفرد هو “مقياس كل شىء”؛ بحيث لا يمكن لفرد أو مجموعة أو فكر ما أن يملي على من يعيشون فى هذا المجتمع ما يفعلونه، فأنت حر فيما تقول وتسمع وتفعل وترى، وما تراه أنت جميلا ومفيدا ورائعا قد يراه غيرك قبيحا وضارًّا، وقد يرى آخر أن ما يراه الاثنان غير موجود من الأساس

كأن يرى شخص بأن السعادة تكمن فى فعل كل ما يشعره بإشباع كل رغباته وشهواته مهما كانت، وجمع أكبر قدر من المال؛ حيث إنه السبيل الوحيد للتحرر من استعباد الآخرين، وسرعان ما ستنتهي حياة الإنسان، لذا فعليه أن يغتنم كل فرصة ويستخدم كل وسيلة لتحقيق هذه الغاية مهما كانت، ويرى آخر أن السعادة تكمن في الابتعاد عن كل ما هو دنيوي والسمو على الملذات والمتع وكل ما هو مرتبط بالمادة، فهي مصدر كل الصراعات والحروب والشرور التى نراها فى العالم من قتل للأبرياء واضطهاد للضعفاء، فهذا كله بسبب السعي وراء الشهوات والملذات وإرضاء الأطماع المادية، ويرى ثالث أنه لا توجد سعادة فى هذا العالم وأنه لا جدوى من المحاولة فى الوصول إليها، فنحن خلقنا لنعاني فى هذه الدنيا ليس إلا، أو خلقنا الإله ليشعر ببعض التسلية وهو يشاهد صراعاتنا كما نشاهد مبرايات كرة القدم أو المصارعة الحرة حتى لا يقتله الملل كما يرى “كامو”، كل هذه الآراء صحيحة عند بعض التيارات الفكرية التي تنادي بالنسبية فكل فرد من هؤلاء يعد “مقياسا” لما هو صحيح وكل ما قيل عن السعادة بالرغم من تناقضات وتصادم الآراء يعتبر صحيحًا.

هذا ما كان يراه “جورجياس” زعيم الحركة السفسطائية المتطرفة فى المجتمع الأثيني، الذي رأى أنه لا يوجد واقع من الأساس ليتمكن الناس من إدراكه، وإذا وجد فلا يمكن معرفته لأن الحواس والعقل قد يخدعون الإنسان (كرؤية السراب ماء، والملعقة المكسورة في الماء،…)، وحتى إذا تمكن الإنسان من معرفة هذا الواقع فلن يتمكن من وصفه، وإذا حدث ووَصَفه فلن يجد من يفهم هذا الوصف. ناهيك عن القيم؛ فلا يوجد قيمة لأي شىء فى ذاته ولكن الإنسان هو الذي يعطي القيمة لكل شىء وفق رؤيته وتجاربه وخبراته، فالواقع والقيمة أمر نسبي قابل للتغير من شخص لآخر كما كان يرى “بروتاجورس”. هل يمكن أن يتشكل مجتمع بهذا “اللانظام” كما يقول هذا التيار، كيف يمكن أن يصدر القاضي حكما على مجرم أو ظالم، إذا كان كونُه مجرمًا أمر “نسبي” ، فقد يكون ظالما من وجهة نظرك وعادلا في وجهة نظر أخرى وقد يأتي ثالث ليقول لا يوجد ما يسمى أصلا بالعدل والظلم المطلق!

أجابنا سقراط على هذا التساؤل، حيث شكل تيارا جديدا فى مواجهة التيار السائد والمسيطر فى عصره والذي لم يكن واضحا للطبقة العريضة من المجتمع خطورته وهذا ليس بسبب ضعف قدرة الناس على الفهم -حيث إن فطرة الإنسان والتفكير المنطقي السليم كافية لرؤية كم المغالطات والانحرافات في ذلك الفكر- ولكن السبب في عدم معارضتهم هذا التيار هي قدرة “بروتاجورس” وأتباعه على التلاعب بالألفاظ بأن جعلوا الحق باطلًا والباطل حقًّا، وبراعتهم في إخفاء حقيقة ما يرمون إليه.ولكن قام سقراط بتحليل كل هذه الأفكار وفندها وساعد الناس على معرفة حقيقة هذا الفكر عن طريق “فن توليد الفكرة” وهو أن يسأل الناس عما يتبنون من أفكار ومعتقدات ويواصل التساؤل حتى يجعلهم يَصِلُون للنتيجة بأنفسهم ويُظهر للمستمعين مكمن الخطأ والخداع فى الفكرة التى أقنعهم بها التيار السائد.

فلكي يتبنى المجتمع فكرة ما، يجب ألا يكون مصدر تبنيها هو مجرد “تجربة” مجتمع آخر لها، بل يتم تبنيها لكونها تتوافق مع معايير واضحة مصدرها المنطق الصحيح الذى يفرق بين الحق والباطل، فلا يمكن أن نقوم بتجارب عديدة لنعرف ما هو أفضل نظام اقتصادى للبلاد مثلا؛ فأثر التجربة سيتحمله المجتمع كله وقد تتسبب تجربة فكرة جديدة فى إفناء المجتمع بالكامل.

وإذا أردنا أن نعرف ما هى السعادة مثلا يجب أن نعرف أن الحصول عليها يكون بتلبية احتياجات الإنسان التى هي مادية وروحانية معا، فلا يفرط فى حب المادة بشدة ويقوم بالتفريط فى الأخلاق وتحصيل المعرفة أو ينبذ الحياة المادية تمامًا، فالعدالة تؤدى للسعادة.

وقيمة الشىء يمكن معرفتها عن طريق مقياس ثابت لها كما يفعل المهندس عند قياس الأطوال باستخدم مقياس ثابت كالمسطرة، أو الدكتور الذي يستخدم الترمومتر كمقياس ثابت لقياس الحرارة، لذا علينا بتثبيت المعايير والانطلاق من العدل والتجرد، بحيث لا نكوِّن أحكاما مسبقة بدون دليل منطقي أو نحكم على الشىء طبقا لأهوائنا بل طبقا لما هو حق وعدل. ولا تنكر هذه الرؤية وجود بعض الأمور الذوقية ذات الطبيعة نسبية في الاختيار كأن يحب شخص ما اللون الازرق وآخر يحب الأصفر! فهنا لا يوجد معيار يجعلنا نقوم بترجيح حب لون على الآخر أو تفضيل أكل “الكريب” مثلا عن “البيتزا”! ولكن حتى تشخيص ماهو مطلق وما هو نسبي يحتاج لمعيار لكي لا تختلط الأمور وتفسد الأفكار التي تبنى عليها القرارات والتصرفات الهامة.

ولكن حين يتعلق الأمر بالكذب والصدق مثلا أو السرقة والقتل أو العدل والظلم أو بكون هناك خالق أم لا أو أنه كامل وعادل أم ظالم يلهو بعباده، فهذا أمر آخر. فالكذب هو إخفاء الحقيقة ومجتمع بلا حقيقة هو مجتمع ضعيف هش يمكن كسره وتدميره أو استخدامه دون وعي لمصلحة مجتمعات أخرى، مجتمع لا يعرف الفرق بين الظلم والعدل أو يقر أنه أمر نسبي، يعنى أن نرى أبا يقوم باغتصاب أولاده وابن يقوم بعقوق والديه ويستهزأ بهم لكونهم أصبحوا عبئا عليه لكبر سنهم، أو أطفال لا نعرف لهم أبًا ولا أمًّا فيصبحون ظاهرة “أطفال الشوارع”، ومثقفين يروجون لأفكارٍ تحث على البعد عن الزواج والحياة الأسرية وحب التحرر والعزوبية، وأستاذة جامعة ترى أن “الرقص” هو المجال الأفضل لها لتشعر بالسعادة وترضى عن نفسها وأبحاث تقر الشذوذ الجنسي كطبيعة بشرية وكثير من الأمراض المجتمعية والظواهر الكارثية التي تنتشر وستستمر فى الانتشار، وهذا كله نتاج نسبية الحق وانعدام المعايير والتحرر من كل قيد، فيجب ألا نستهين كأفراد بأثر تبنينا لفكرة ما على كل ما يحدث فى مجتمعاتنا، فتمسكنا بالمبادىء الصحيحة النابعة من المعايير الصلبة يمكن أن يغير ما نتصور أنه لا يمكن تغييره.