Newsletter

السبت، 9 ديسمبر 2017

القدس لا تساوى شيئا

القدس لا تساوى شيئا

في نهاية الفيلم السينمائي الشهير “مملكة السماء–Kingdom of Heaven “؛ يقف “حداد باليان”؛ بعد تفاوضه مع “صلاح الدين”، وبعد معركة دموية من أجل “القدس”؛ استمات فيها “باليان” ومن معه في الدفاع، واستبسل “صلاح الدين” وجنوده في الهجوم، وبعد مفاوضات تسليم المدينة،والاتفاق على شروط تسليمها- يلقي صلاح الدين السلام عليه،ثم يبدأ بالعودة لجيشه. فيستوقفه “باليان” ويسأله: “ما قيمة القدس بالنسبة لكم؟” فيجيب صلاح الدين: “لا شيء!”.وبعد أن يمشي بضع خطوات أخرى؛يلتفت ليقول: “بل كل شيء!”

يستوقفني كثيرا أيضا الموقف الشهير لعمر بن الخطاب قبالة الحجر الأسود؛ عندما قال: “أم والله لقدعلمت أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ماقبلتك”

ليس من ذاتيات الأماكن القداسة، ولا من ذاتيات الماديات الكرامة، ولا يتفاضل بعضها على بعض، بل يقرر العقل لبعضها أهمية تكتسبها من كليات ومبادئ عقلية ما، أو يُفضّل النص الإلهي بعضها بمزيات لا نعلم عللها، فهي ميزة اعتبارية؛ لا يقف عليها إلا معتبرها الحكيم العادل، وتكتسب الأرض هذه الميزة عند من يؤمن بهذا النص الإلهي أو هذا التشريع جملة؛ فيلتزم بتفاصيله وجزئياته، أو عند من يرى لها ارتباطا بمبدأ عقلي فرضه عليها ظروف الزمان والمكان.

إن القضية لم تكن قط قضية أرض، ولا صراع حدود أو مساحات، إن من يختزلها في هذه “المادة” وهذا الجماد لهو واهم.والقضية ليست عددامن الشهداء الذين تربطنا بهم قرابة، وليست قضية ثأر لكرامة أو عرض.بل هي أسمى وأعلى من كل الاختزالات الضيقة.إنها قضية “العدل”، قضية كلمة الله وقانونه.

إنها حرب بين ممالك الشيطان وممالك الرحمن، الحرب المستمرة منذ خلق الإنسان ومعصية إبليس، ورحاها دائرة في قلب كل منا وعقله قبل أن تجري على الأرض. تظهر مصاديقها في كل مظلوم، وكل مقتول، وكل شهيد، سواء كان في “القدس” أو في آخر الدنيا، ربطتنا به صلة دم أو لم تربط.

إن “القدس” هي أكبر تمثيل لهذه الحرب الآن على أرض الواقع، مضخمة آلاف المرات، لترى كيف يتصرف الإنسان بعيدا عن هداية العقل، معاندا لإرادة “مملكة السماء”، كيف يتصرف عندما يخضع لحيوانيته بالكامل؛ فيحيل الأرض غابا، وينصاع للفلسفات المادية ولرغباته الشهوانية، ويُحكّم غضبه الحيواني بدلا من عقله في الصراعات.

منذ عام 1972، وخلال أربعين عاما؛ استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية “حق الفيتو” لصالح إسرائيل اثنين وأربعين مرة! اثنان وأربعون مرة اختار فيها المجتمع الدولي بآلياته وقوانينه ومنظوماته ومؤسساته السكوت، واختارت أمريكا البغاء، واخترنا تعليق الآمال على الذئب لحماية الخراف!

إنها إرادة العالم، إن البشرية اليوم لا تريد العدل ولا تعرفه، لقد نسيناه لطول بعدنا عنه.إن الآلام والتأوهات التي يجنيها مقتل نفس واحدة في دولة غربية؛ قد تفوق ما تجتذبه قضية تمزيق شعوب كاملة، عصبية وجهل مقيت، ليست من العدل ولا العدل منها في شيء.

دائما ما يستهويني مشهد”الفتح الأعظم”؛ عندما دخل النبي محمد مكة فاتحًا. فتصرفات النبي في هذا اليوم لها بالتأكيد دلالات عظيمة، فلم يتصرف كعادة الفاتحين أو الملوك الظاهرين،بل يعلنها عالية: “اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشا”.مرورًا بقرارات العفو الصادرة بحق أعتى أعدائه، ثم العفو الجماعي “اذهبوا فأنتم الطلقاء”؛ والتي توضح أن معركته لم تكن مع أشخاص، وليست حربا بين قبائل وعصبيات، ولا ثأرا شخصيا، ولا الانتصار فيها بحاجة إلى بعض الرؤوس الطائرة. إنه “السلام” الحقيقي الذي يظهر في مواقف الرجال، لا في مؤتمرات الكلام الفارغ.

ثم مشهد تحطيم الأصنام؛ والذي تأخر واحدا وعشرين عاما بعد البعثة! لو كانت الأصنام –هذه المادة وهذه الحجارة- هي المقصودة، وهي سبب الفساد والطغيان؛ لسعى النبي لتحطيمها منذ اليوم الأول للبعثة، لكن هدم هذه الأصنام لم يكن شاغل النبي ولا هدفه طيلة الأعوام السابقة للفتح، بل كان هدفه هدم الأصنام التي بالنفوس، وإقامة بناء الحق والعدل في القلوب، عندها وعندها فقط؛ ستسقط الاصنام التي في الخارج بلا رجعة، وستُفتح مكة وتعود الأرض دون قتال حتى!

إن لكل منا “قدسه” الخاصة التي يجب أن يحررها، و”أصنامه”الخاصة التي يجب أن يهدمها. وقبل الجهاد على الأرض نحتاج للجهاد بداخلنا، ثم في أوطاننا قبل خارجها، أن نقر حدود العدل والإنسانية في أنفسنا.

إن “القدس” لا تحتاجنا يا سادة، ولا تحتاج للدعم الأمريكي، أو الاصطفاف العالمي، أو الوحدة العربية. بل نحن من نحتاجها، نحتاج أن نعيد لها السلام كي نستعيد سلامناوإنسانيتنا، كي نتمكن من أن نرفع أصواتنا بالابتهال دون أن نعلم أننا مغضوب علينا، وأننا فرطنا في نصر كلمة الله، كي نتمكن أن ندّعي أننا بشرا،وأننا أممٌ تنتسب للهدي الإلهي.كي نتمكن من أن نُعلّم أبناءنا معنى الإنسانية، ومعنى العدل.

ليست هذه دعوة لترك النضال على الأرض، ولا بالتأكيد دعوة للتفريط في الأرض، لكنها دعوة لكي نستفيق، ونعرف ترتيب المعارك وكيف نختارها، ولنعرف من أين تؤكل الكتف، ولإعادة التفكير في سبب فشل كل مساعينا السابقة لحل “القضية”. يقولون أنه لا يمكن حل المشكلة بنفس مستوى التفكير الذي أدى لوقوعك بها، ربما نحن بحاجة لنقل المعركة إلى مستويات أخرى من التفكير، ربما أن العالم يحتاج أن يغير تفكيره كي يحل السلام.

“لَنْ يَنَال اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَادِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ” الحج- 37

إن القدس لا تساوي شيئا، لكنها تساوي كل شيء!

القدس لا تساوى شيئا

القدس لا تساوى شيئا

في نهاية الفيلم السينمائي الشهير “مملكة السماء–Kingdom of Heaven “؛ يقف “حداد باليان”؛ بعد تفاوضه مع “صلاح الدين”، وبعد معركة دموية من أجل “القدس”؛ استمات فيها “باليان” ومن معه في الدفاع، واستبسل “صلاح الدين” وجنوده في الهجوم، وبعد مفاوضات تسليم المدينة،والاتفاق على شروط تسليمها- يلقي صلاح الدين السلام عليه،ثم يبدأ بالعودة لجيشه. فيستوقفه “باليان” ويسأله: “ما قيمة القدس بالنسبة لكم؟” فيجيب صلاح الدين: “لا شيء!”.وبعد أن يمشي بضع خطوات أخرى؛يلتفت ليقول: “بل كل شيء!”

يستوقفني كثيرا أيضا الموقف الشهير لعمر بن الخطاب قبالة الحجر الأسود؛ عندما قال: “أم والله لقدعلمت أنك حجر، وأنك لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ماقبلتك”

ليس من ذاتيات الأماكن القداسة، ولا من ذاتيات الماديات الكرامة، ولا يتفاضل بعضها على بعض، بل يقرر العقل لبعضها أهمية تكتسبها من كليات ومبادئ عقلية ما، أو يُفضّل النص الإلهي بعضها بمزيات لا نعلم عللها، فهي ميزة اعتبارية؛ لا يقف عليها إلا معتبرها الحكيم العادل، وتكتسب الأرض هذه الميزة عند من يؤمن بهذا النص الإلهي أو هذا التشريع جملة؛ فيلتزم بتفاصيله وجزئياته، أو عند من يرى لها ارتباطا بمبدأ عقلي فرضه عليها ظروف الزمان والمكان.

إن القضية لم تكن قط قضية أرض، ولا صراع حدود أو مساحات، إن من يختزلها في هذه “المادة” وهذا الجماد لهو واهم.والقضية ليست عددامن الشهداء الذين تربطنا بهم قرابة، وليست قضية ثأر لكرامة أو عرض.بل هي أسمى وأعلى من كل الاختزالات الضيقة.إنها قضية “العدل”، قضية كلمة الله وقانونه.

إنها حرب بين ممالك الشيطان وممالك الرحمن، الحرب المستمرة منذ خلق الإنسان ومعصية إبليس، ورحاها دائرة في قلب كل منا وعقله قبل أن تجري على الأرض. تظهر مصاديقها في كل مظلوم، وكل مقتول، وكل شهيد، سواء كان في “القدس” أو في آخر الدنيا، ربطتنا به صلة دم أو لم تربط.

إن “القدس” هي أكبر تمثيل لهذه الحرب الآن على أرض الواقع، مضخمة آلاف المرات، لترى كيف يتصرف الإنسان بعيدا عن هداية العقل، معاندا لإرادة “مملكة السماء”، كيف يتصرف عندما يخضع لحيوانيته بالكامل؛ فيحيل الأرض غابا، وينصاع للفلسفات المادية ولرغباته الشهوانية، ويُحكّم غضبه الحيواني بدلا من عقله في الصراعات.

منذ عام 1972، وخلال أربعين عاما؛ استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية “حق الفيتو” لصالح إسرائيل اثنين وأربعين مرة! اثنان وأربعون مرة اختار فيها المجتمع الدولي بآلياته وقوانينه ومنظوماته ومؤسساته السكوت، واختارت أمريكا البغاء، واخترنا تعليق الآمال على الذئب لحماية الخراف!

إنها إرادة العالم، إن البشرية اليوم لا تريد العدل ولا تعرفه، لقد نسيناه لطول بعدنا عنه.إن الآلام والتأوهات التي يجنيها مقتل نفس واحدة في دولة غربية؛ قد تفوق ما تجتذبه قضية تمزيق شعوب كاملة، عصبية وجهل مقيت، ليست من العدل ولا العدل منها في شيء.

دائما ما يستهويني مشهد”الفتح الأعظم”؛ عندما دخل النبي محمد مكة فاتحًا. فتصرفات النبي في هذا اليوم لها بالتأكيد دلالات عظيمة، فلم يتصرف كعادة الفاتحين أو الملوك الظاهرين،بل يعلنها عالية: “اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشا”.مرورًا بقرارات العفو الصادرة بحق أعتى أعدائه، ثم العفو الجماعي “اذهبوا فأنتم الطلقاء”؛ والتي توضح أن معركته لم تكن مع أشخاص، وليست حربا بين قبائل وعصبيات، ولا ثأرا شخصيا، ولا الانتصار فيها بحاجة إلى بعض الرؤوس الطائرة. إنه “السلام” الحقيقي الذي يظهر في مواقف الرجال، لا في مؤتمرات الكلام الفارغ.

ثم مشهد تحطيم الأصنام؛ والذي تأخر واحدا وعشرين عاما بعد البعثة! لو كانت الأصنام –هذه المادة وهذه الحجارة- هي المقصودة، وهي سبب الفساد والطغيان؛ لسعى النبي لتحطيمها منذ اليوم الأول للبعثة، لكن هدم هذه الأصنام لم يكن شاغل النبي ولا هدفه طيلة الأعوام السابقة للفتح، بل كان هدفه هدم الأصنام التي بالنفوس، وإقامة بناء الحق والعدل في القلوب، عندها وعندها فقط؛ ستسقط الاصنام التي في الخارج بلا رجعة، وستُفتح مكة وتعود الأرض دون قتال حتى!

إن لكل منا “قدسه” الخاصة التي يجب أن يحررها، و”أصنامه”الخاصة التي يجب أن يهدمها. وقبل الجهاد على الأرض نحتاج للجهاد بداخلنا، ثم في أوطاننا قبل خارجها، أن نقر حدود العدل والإنسانية في أنفسنا.

إن “القدس” لا تحتاجنا يا سادة، ولا تحتاج للدعم الأمريكي، أو الاصطفاف العالمي، أو الوحدة العربية. بل نحن من نحتاجها، نحتاج أن نعيد لها السلام كي نستعيد سلامناوإنسانيتنا، كي نتمكن من أن نرفع أصواتنا بالابتهال دون أن نعلم أننا مغضوب علينا، وأننا فرطنا في نصر كلمة الله، كي نتمكن أن ندّعي أننا بشرا،وأننا أممٌ تنتسب للهدي الإلهي.كي نتمكن من أن نُعلّم أبناءنا معنى الإنسانية، ومعنى العدل.

ليست هذه دعوة لترك النضال على الأرض، ولا بالتأكيد دعوة للتفريط في الأرض، لكنها دعوة لكي نستفيق، ونعرف ترتيب المعارك وكيف نختارها، ولنعرف من أين تؤكل الكتف، ولإعادة التفكير في سبب فشل كل مساعينا السابقة لحل “القضية”. يقولون أنه لا يمكن حل المشكلة بنفس مستوى التفكير الذي أدى لوقوعك بها، ربما نحن بحاجة لنقل المعركة إلى مستويات أخرى من التفكير، ربما أن العالم يحتاج أن يغير تفكيره كي يحل السلام.

“لَنْ يَنَال اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَادِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنْكُمْ” الحج- 37

إن القدس لا تساوي شيئا، لكنها تساوي كل شيء!